سمات منهجه في الدعوة
عرف سماحة الشيخ - رحمه الله - بالإكثار من المشاركة في الدعوة إلى الله، والاجتهاد في تبليغها في كل حال وآن، من دروس مستمرة، ومحاضرات مهمة، ورقائق ومواعظ بليغة، وفتاوى محكمة دقيقة، وتوجيهات وإرشادات صادقة سديدة، بكل الوسائل الشرعية، والأساليب الحسنة المرعية في الإذاعة والصحف والمساجد والهاتف وغيرها.
ونشير فيما يلي إلى بعض سمات منهجه رحمه الله، من خلال الأمور الآتية:
عنايته الشديدة بالعقيدة الصحيحة:
من سمات منهجه في الدعوة إلى الله العناية الشديدة بالعقيدة، فقد اعتنى - رحمه الله - بها عناية فائقة، واهتم بها اهتمامًا بالغًا، فلا تكاد تسمع كلمة له، أو تقرأ مقالاً، أو تطلع على كتاب، أو تتمعن في رسالة، أو تتأمل بإجابة، أو تحضر مجلسًا أو درسًا إلا وتجد ذلك ظاهرًا جليًّا فيها تأصيلاً وتقريرًا وتحقيقًا ومطالبة، وبيانًا لما يضاد العقيدة الصحيحة.
ولا يعتبر ذلك غريبًا على الشيخ - رحمه الله - إذا أدركنا أنه أحد أئمة الدعوة السلفية التي قامت على التوحيد الخالص، واعتمدت منهج السلف الصالح في جميع أحوالها وتحولاتها.
يقول - رحمه الله - في مقدمة مجموع فتاواه: "فهذه فتاوى ومقالات صدرت مني في أوقات متعددة ولما فيها من الفائدة رأيت أن أجمعها وأطبعها في غلاف واحد لأستفيد منها، ويستفيد منها من شاء الله من العباد، وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينفعني بها حيًا وميتًا، وأن ينفع بها عباده إنه سميع قريب، ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو حسبي ونعم الوكيل، وقد رأيت ترتيبها على ترتيب الفقهاء بادئًا بما يتعلق بالعقيدة؛ لكونها أهم الأمور". [1]
ويقول - رحمه الله - في أحد محاضراته: "وأهم ما اشتمل عليه هذا الكتاب العظيم - القرآن الكريم - بيان حق الله على عباده، وبيان ضد ذلك. هذا أعظم موضوع اشتمل عليه القرآن، وهو بيان حقه سبحانه على عباده من توحيده، وإخلاص العبادة له، وإفراده بالعبادة، وبيان ضد ذلك من الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر، وأنواع الكفر والضلال.
ولو لم يكن في تدبر هذا الكتاب العظيم إلا العلم بهذا الواجب العظيم، وتدبر ما ذكره الله في ذلك، لكان ذلك خيرا عظيما، وفضلا كبيرا، فكيف وفيه الدلالة على كل خير، والترهيب من كل شر...
ومحاضرتي هذه الليلة في أعظم موضوع، وأهم موضوع، وهو: موضوع العقيدة، موضوع التوحيد وضده". [2]
وهذا مثال يتضح به قيام الشيخ - رحمه الله - بتوضيح العقيدة الصحيحة، وعنايته الفائقة بها، وما بذله من جهود متميزة في سبيل الدعوة إليها:
حيث ألقى محاضرة عن العقيدة الصحيحة وما يضادها، ومن ضمن ما قال فيها: "الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فلما كانت العقيدة الصحيحة هي أصل دين الإسلام، وأساس الملة، رأيت أن تكون هي موضوع المحاضرة، ومعلوم بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أن الأعمال والأقوال إنما تصح وتقبل إذا صدرت عن عقيدة صحيحة، فإن كانت العقيدة غير صحيحة بطل ما يتفرع عنها من أعمال وأقوال، كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5] وقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، والآيات في هذا المعنى كثيرة...". [3]
فمن سمات منهجه - رحمه الله - الدعوة إلى ما دعت إليه الرسل من التوحيد، والتحذير من الشرك، والبدع، ومحاربة القبورية، والدعوة إلى إخلاص العبودية والتمسك بالدين الحق، دين الإسلام على منهاج النبوة وفهم السلف الصالح، ومعتقد أهل السنة والجماعة.
ويتجلى هذا الأصل الأصيل، والركن المتين، في مؤلفاته، ومحاضراته، وتدريسه، وحديثه مع العلماء والدعاة.
يقول - رحمه الله - في رسالة بعثها إلى الدعاة والعلماء خاصة والمسلمين عامة بعنوان (حقيقة العبادة التي خلق من أجلها الثقلان): "فإن أهم واجب على المكلف وأعظم فريضة عليه، أن يعبد ربه سبحانه رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم ... وهذه العبادة التي خلق الله الثقلين من أجلها هي توحيده بأنواع العبادة من الصلاة والصوم والزكاة والحج والسجود والطواف والذبح والنذر والخوف والرجاء والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة، وسائر أنواع الدعاء، ويدخل في ذلك طاعته سبحانه في جميع أوامره وترك نواهيه على ما دل عليه كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وقد أمر الله سبحانه جميع الثقلين بهذه العبادة التي خلقوا لها، وأرسل الرسل جميعا، وأنزل الكتب لبيان هذه العبادة وتفصيلها". [4]
دعوته إلى جمع الصفوف وتأليف القلوب:
ومن منهجه - رحمه الله - العمل على جمع الصفوف وتأليف القلوب، وتوحيد الكلمة على التوحيد والتقوى والعمل الصالح.
وهو أصل في منهجه - رحمه الله - في سائر حياته من حبه لتأليف بين متخاصمين، وإصلاح بين متنازعين، وجمع بين زوجين، وتقريب بين متباعدين.
وهذا الأصل من أعظم أصوله في الدعوة، ومن أسباب نجاحه فيها، فيؤلف بين نفوس الدعاة، ويقرب وجهات النظر، ويوضح الحق بدليله، ويشكر لكل مجتهد اجتهاده قليله وكثيره، وبهذا اجتمعت الكلمة عليه، وصدروا بالرأي عنه. [5]
تشجيعه للداعين إلى الله تعالى:
ومما امتاز به - رحمه الله - التشجيع على الدعوة، والحث على القيام بها، فإذا رأى مبتدئًا في العلم أو الدعوة شجعه ومدحه، وبين له نقصه وخطأه، بأسلوب مناسب، لا يزعجه ولا يحرجه.
وإذا رأى عملاً صالحًا ناقصًا لا يتعارض مع العقيدة شجعه، وأرشد إلى الأكمل منهجًا، والأسد مسلكًا، والأشمل عملاً، والأكثر فضلاً وأجرًا.
وإذا رأى قويًا في الخير ضعف نشاطه، أو منهجًا ضل أصحابه، أسدى نصيحته، وبين الأمر وحقيقته، وكشف الضلال وظلمته، ودلهم على الحق بحكمته، لا يداهن في دين الله وشريعته. [6]
ذمه للتفرق والخلاف:
ومن أبرز سمات منهجه - رحمه الله - ذم التفرق والخلاف بغير الحق والتحذير منه، والبعد عن التحزب، والنفير عنه، والتوكيد على جمع الكلمة والاعتصام بالكتاب والسنة، والمحبة والنصح لأهل الإسلام، وتقدير كل مجتهد في الحق، وتشجيع كل عامل محق، والحث على التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر على البلوى، والاجتهاد في طلب العلم والتحلي بآدابه، والإخلاص في الدعوة، وحسن التأسي بأسلافه، والتجرد من الهوى، وشُبه أتباعه، والتمسك بهدي النبي ﷺ وآثاره. [7]
معرفته لأهل الفضل فضلهم ومكانتهم:
من سمات منهجه - رحمه الله - أنه يُجل كبار العلماء وأفاضل الدعاة، ويعتبرهم خواصه والمقربين إليه، ويُثني على الداعية المجتهد في طلب العلم، الحريص على التضلع من كتب السلف، والمتمكن من اللغة، المكثر من الاستلال بالكتاب والسنة، البعيد عن الإثارة والفتنة، وعن الغلظة والشدة، المعالج للأمور بالروية والحكمة، المؤثر في أسلوبه وعرضه، المكثر من نشاطه في دعوته، المراجع للمادة العلمية في موعظته ومحاضرته، المعني باختيار المهم في موضوعاته، المخالط الناصح للعامة والخاصة، المتفائل المبشر بالخير، والعامل الجاد في العمل. [8]
تبصره للعواقب وترويه في المهمات:
ومن سمات منهجه - رحمه الله - في الدعوة الحكمة في الأمور، والتبصر في العواقب، والتروي في المهمات، وقد نجى الله به من فتن مظلمة، وشرور عظيمة، ومفاسد كثيرة، وفتح الله بحكمته أبوابًا للخير مغلقة: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269].
وبهذه الحكمة دفع الله آثار عجلة المتعجلين، وهوى الجاهلين، وحفظ الله الأمن بين المؤمنين. [9]
ومن بصيرته وحكمته ومعرفته أنه كان يعمل بمنهج التسديد والمقاربة في الفروع والوسائل، لا الأصول والعقائد، مع العمل على تحصيل مقام الإحسان، والسبق في صالح الأعمال، وتحقيق أعلى الرتب، والوصول إلى أفضل الأحوال.
وهو منهاج نبوي، حيث وجه النبي ﷺ أصحابه بالتسديد والمقاربة كما في قوله ﷺ: سددوا وقاربوا[10] الحديث.
فما كل أمر يستطيع العبد أن يأتي به على تمام الوجه المراد، وعلى كمال الصفة المطلوبة، ولهذا بُنيت العبادات على الاستطاعة، قال تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ومن القواعد الخمس الكبرى في الفقه الإسلامي قاعدة (المشقة تجلب التيسير) والأصل في الإسلام أنه مبني على الحنيفية السمحة، ووضع الآصار والأغلال. [11]
عموم دعوته وشمول بلاغه:
رسالة الإسلام عامة للجن والإنس، والذكر والأنثى، والشباب والكهول والشيوخ، والأغنياء والفقراء، والعرب والعجم، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28].
والشيخ - رحمة الله - كانت دعوته عامة، فتجد بيته يغص بالناس كلهم من كل الأصناف، ومن مختلف الأعمار والأعمال والأجناس، وكان يأبى أشد الإباء في مجرد التمييز، ويطبق الميزان الإلهي: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] مع الحكمة ووضع الأمور في مواضعها المناسبة. [12]
كما أن هذه الدعوة كانت شاملة للتوحيد، والعبادة والمعاملات والأخلاق، فالإسلام دين واحد، وعقائده وتشريعاته فيها الخير والنور للبشرية كلها مع العناية الشديدة بأصل الأصول، وهو التوحيد. [13]
الحكمة في دعوته والموعظة الحسنة في بلاغه:
نهج الشيخ - رحمه الله - منهج الحكمة في دعوته، وتبليغه شريعة ربه، وكان يدرك تماما معنى الحكمة في الأقوال والأفعال كان يقول - رحمه الله:
"فالحكمة كلمة عظيمة، معناها الدعوة إلى الله بالعلم والبصيرة، والأدلة الواضحة المقنعة الكاشفة للحق، والمبينة له، وهي كلمة مشتركة تطلق على معان كثيرة، تطلق على النبوة، وعلى العلم والفقه في الدين، وعلى العقل، وعلى الورع، وعلى أشياء أخرى، وهي في الأصل كما قال الشوكاني رحمه الله: الأمر الذي يمنع عن السفه، هذه هي الحكمة، والمعنى: أن كل كلمة وكل مقالة تردعك عن السفه، وتزجرك عن الباطل فهي حكمة، وهكذا كل مقال واضح صريح، صحيح في نفسه، فهو حكمة، فالآيات القرآنية أولى بأن تسمى حكمة، وهكذا السنة الصحيحة أولى بأن تسمى حكمة بعد كتاب الله، وقد سماها الله حكمة في كتابه العظيم، كما في قوله : وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] يعني السنة، وكما في قوله سبحانه: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا[البقرة:129] الآية، فالأدلة الواضحة تسمى حكمة، والكلام الواضح المصيب للحق يسمى حكمة". [14]
وهكذا كان منهجه - رحمه الله - حيث كان يسلك طريق الحكمة والروية، وعنده قدرة فائقة على التعامل مع الفئات المتباينة، حيث تعامل مع الحكام والملوك والمسؤولين فكسب ثقتهم وأفادهم بصائب رأيه، وفي المقابل هو مقصد الشباب والفتيان يستفيدون من عمله ويثقون بما يصدر عنه. [15]
وقطعًا كان مرد ذلك إلى توفيق الله ثم حكمته - رحمه الله - في التعامل واختياره لكلٍ ما يناسبه.
تروي هند بنت عبدالعزيز بن باز أنها لما كانت في المرحة المتوسطة عرضت عليها المشرفة الاجتماعية أن تنصح طالبة كان سلوكها غير سوي تقول: ففكرت في طريقة لتتقبل نصحي لها وتتأثر به.
فقلت لها: إنني رأيت فيك رؤيا مزعجة أقلقتني، وأخبرتها بالرؤيا وأحزنها ذلك فانتابني شعور بعدم الارتياح لهذا التصرف.
فسألت سماحة الوالد عن هذا التصرف فأوصاني بعدم الكذب، وأخبرني بأنني جانبت الصواب، وأوصاني بأن أبادرها بالنصح بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد استشعرت من هذا أهمية تحلي المؤمن بالصدق في أقواله وأفعاله وفي سائر أموره. [16]
وأما عن الموعظة فقد كان - رحمه الله - حسن الوعظ، كريم الطبع قد أخذ من هذا الوصف حظًا وافرًا، لا تخرج منه كلمة فيها تجريح أو تعدٍّ، ومن استعرض محاضراته ومؤلفاته وفتاواه ومقالاته يجد هذا المنهج جليًا واضحًا. [17]
الزجر والتوبيخ أحيانا:
وهذا الموقف يسلك عندما يكون هناك ظلم وتعد لا تنفع مع صاحبه الحكمة ولا الموعظة الحسنة، كما أنه ليس أهلًا للمجادلة بالتي هي أحسن، فعندئذ لا ينفع مع هذا وأمثاله إلا الشدة والغلظة، والوقوف بحزم وقوة لصد تعديه وظلمه، وإيقافه عند حده، خصوصًا عندما يكون ذلك متعلقًا بحق الله تعالى وعبوديته سبحانه، وهكذا كان منهجه - رحمه الله - فقد وقف مواقف قوية في وجه كل من تطاول على شرع الله، أو حاول ابتداع أمور ليست من الدين في شيء، بعد أن لم تكن الحكمة والموعظة والجدال نافعة معه، وما أكثر المواقف التي سطرت في مقالاته وكتاباته وتوجيهاته.
يقول - رحمه الله - وهو يوضح هذا المنهج الذي طبقه عمليًا قبل أن ينطق به لسانه: "أما عند الظلم والتعدي فله نهج آخر، وسبيل آخر، كما قال جل وعلا: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46] فإذا كان أهل الكتاب يجادلون بالتي هي أحسن، فالمسلمون من باب أولى أن يجادلوا بالتي هي أحسن، لكن من ظلم ينتقل معه إلى شيء آخر، فقد يستحق الظالم الزجر، والتوبيخ، وقد يستحق التأديب والسجن، إلى غير ذلك على حسب ظلمه". [18]
وقال رحمه الله: "...الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت باللين في محله، والغلظة والشدة في مجالهما، وأن المشروع للداعية إلى الله أن يتصف باللين والرفق والحلم والصبر؛ لأن ذلك أكمل في نفع دعوته والتأثر بها كما أمره الله بذلك وأرشد إليه رسوله ﷺ، وأن يكون على علم وبصيرة فيما يدعو إليه وفيما ينهى عنه لقول الله سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108].
ولا ينبغي للداعية أن يلجأ إلى الشدة والغلظة إلا عند الحاجة والضرورة وعدم حصول المقصود بالطريقة الأولى، وبذلك يكون الداعي إلى الله سبحانه قد أعطى المقامين حقهما وترسم هدي الشريعة في الجانبين".[19]
توسطه واعتداله:
الوسطية والاعتدال ميزتان تميز بهما - رحمه الله - في جميع أموره، فقد كان مثالاً للتوازن والموضوعية في العبادة والرأي والفتوى، والمعاملة والتوجيه والنقد.
ولم يعرف عنه - رحمه الله - إسفاف في القول، أو شطحٌ في الرأي، أو شذوذ في الفتوى، أو غرابة في التعامل، أو تطرف في التوجيه، أو حدة في النقد، أو حدّية في التفكير.
ومع هذا كان أيضًا متوازنًا مع كل الأطراف، فهو مضرب المثل في التوازن بين الراعي والرعية، الحاكم والمحكوم.
وهو - رحمه الله - مضرب المثل في التوازن بين الناصحين والمنصوحين، وبين المجتهدين والمقصرين.
كما أنه مضرب المثل في التوازن بين المتشددين والمتساهلين، والغالين والجافين، ولهذا كان مثالًا متميزًا في الوسطية والسماحة في كل شأنه. [20]
ومن القصص في ذلك أن سماحة الشيخ ألقى محاضرة عنوانها: (الشيخ محمد بن عبدالوهاب إمام عصره)، فعلق أحد العلماء على تلك المحاضرة وقال: "في العقائد كان الشيخ ابن باز مثالًا للاعتدال، لا هو كالمتطرفين الذين يطلقون عبارات الشرك على كل صغيرة وكبيرة، ولا هو من المتساهلين الذين يغضون النظر عن صغائر الأمور، بل إنه لينبه على كل صغيرة وكبيرة، ويضع كل شيء في موضعه، وهي الوسطية التي كسبها وثبتها علماء السنة، وسطية بالفكر، وسطية في العلم، وسطية في إلقاء الأحكام، وسطية في الأخلاق والسلوك، لا تطرف لا في الميمنة ولا في الميسرة". [21]
هذه بعض السمات من منهجه - رحمة الله - في الدعوة إلى الله، والمتتبع لكتبه وما كتب عنه يجد هذه السمات وغيرها كثيرة، بل أُلفت الكتب في ذلك ، تجلي وتبين منهجه في هذا الجانب. [22]، فرحم الله سماحته ونفعنا بعلومه.
ونشير فيما يلي إلى بعض سمات منهجه رحمه الله، من خلال الأمور الآتية:
عنايته الشديدة بالعقيدة الصحيحة:
من سمات منهجه في الدعوة إلى الله العناية الشديدة بالعقيدة، فقد اعتنى - رحمه الله - بها عناية فائقة، واهتم بها اهتمامًا بالغًا، فلا تكاد تسمع كلمة له، أو تقرأ مقالاً، أو تطلع على كتاب، أو تتمعن في رسالة، أو تتأمل بإجابة، أو تحضر مجلسًا أو درسًا إلا وتجد ذلك ظاهرًا جليًّا فيها تأصيلاً وتقريرًا وتحقيقًا ومطالبة، وبيانًا لما يضاد العقيدة الصحيحة.
ولا يعتبر ذلك غريبًا على الشيخ - رحمه الله - إذا أدركنا أنه أحد أئمة الدعوة السلفية التي قامت على التوحيد الخالص، واعتمدت منهج السلف الصالح في جميع أحوالها وتحولاتها.
يقول - رحمه الله - في مقدمة مجموع فتاواه: "فهذه فتاوى ومقالات صدرت مني في أوقات متعددة ولما فيها من الفائدة رأيت أن أجمعها وأطبعها في غلاف واحد لأستفيد منها، ويستفيد منها من شاء الله من العباد، وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينفعني بها حيًا وميتًا، وأن ينفع بها عباده إنه سميع قريب، ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو حسبي ونعم الوكيل، وقد رأيت ترتيبها على ترتيب الفقهاء بادئًا بما يتعلق بالعقيدة؛ لكونها أهم الأمور". [1]
ويقول - رحمه الله - في أحد محاضراته: "وأهم ما اشتمل عليه هذا الكتاب العظيم - القرآن الكريم - بيان حق الله على عباده، وبيان ضد ذلك. هذا أعظم موضوع اشتمل عليه القرآن، وهو بيان حقه سبحانه على عباده من توحيده، وإخلاص العبادة له، وإفراده بالعبادة، وبيان ضد ذلك من الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر، وأنواع الكفر والضلال.
ولو لم يكن في تدبر هذا الكتاب العظيم إلا العلم بهذا الواجب العظيم، وتدبر ما ذكره الله في ذلك، لكان ذلك خيرا عظيما، وفضلا كبيرا، فكيف وفيه الدلالة على كل خير، والترهيب من كل شر...
ومحاضرتي هذه الليلة في أعظم موضوع، وأهم موضوع، وهو: موضوع العقيدة، موضوع التوحيد وضده". [2]
وهذا مثال يتضح به قيام الشيخ - رحمه الله - بتوضيح العقيدة الصحيحة، وعنايته الفائقة بها، وما بذله من جهود متميزة في سبيل الدعوة إليها:
حيث ألقى محاضرة عن العقيدة الصحيحة وما يضادها، ومن ضمن ما قال فيها: "الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فلما كانت العقيدة الصحيحة هي أصل دين الإسلام، وأساس الملة، رأيت أن تكون هي موضوع المحاضرة، ومعلوم بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أن الأعمال والأقوال إنما تصح وتقبل إذا صدرت عن عقيدة صحيحة، فإن كانت العقيدة غير صحيحة بطل ما يتفرع عنها من أعمال وأقوال، كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5] وقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، والآيات في هذا المعنى كثيرة...". [3]
فمن سمات منهجه - رحمه الله - الدعوة إلى ما دعت إليه الرسل من التوحيد، والتحذير من الشرك، والبدع، ومحاربة القبورية، والدعوة إلى إخلاص العبودية والتمسك بالدين الحق، دين الإسلام على منهاج النبوة وفهم السلف الصالح، ومعتقد أهل السنة والجماعة.
ويتجلى هذا الأصل الأصيل، والركن المتين، في مؤلفاته، ومحاضراته، وتدريسه، وحديثه مع العلماء والدعاة.
يقول - رحمه الله - في رسالة بعثها إلى الدعاة والعلماء خاصة والمسلمين عامة بعنوان (حقيقة العبادة التي خلق من أجلها الثقلان): "فإن أهم واجب على المكلف وأعظم فريضة عليه، أن يعبد ربه سبحانه رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم ... وهذه العبادة التي خلق الله الثقلين من أجلها هي توحيده بأنواع العبادة من الصلاة والصوم والزكاة والحج والسجود والطواف والذبح والنذر والخوف والرجاء والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة، وسائر أنواع الدعاء، ويدخل في ذلك طاعته سبحانه في جميع أوامره وترك نواهيه على ما دل عليه كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وقد أمر الله سبحانه جميع الثقلين بهذه العبادة التي خلقوا لها، وأرسل الرسل جميعا، وأنزل الكتب لبيان هذه العبادة وتفصيلها". [4]
دعوته إلى جمع الصفوف وتأليف القلوب:
ومن منهجه - رحمه الله - العمل على جمع الصفوف وتأليف القلوب، وتوحيد الكلمة على التوحيد والتقوى والعمل الصالح.
وهو أصل في منهجه - رحمه الله - في سائر حياته من حبه لتأليف بين متخاصمين، وإصلاح بين متنازعين، وجمع بين زوجين، وتقريب بين متباعدين.
وهذا الأصل من أعظم أصوله في الدعوة، ومن أسباب نجاحه فيها، فيؤلف بين نفوس الدعاة، ويقرب وجهات النظر، ويوضح الحق بدليله، ويشكر لكل مجتهد اجتهاده قليله وكثيره، وبهذا اجتمعت الكلمة عليه، وصدروا بالرأي عنه. [5]
تشجيعه للداعين إلى الله تعالى:
ومما امتاز به - رحمه الله - التشجيع على الدعوة، والحث على القيام بها، فإذا رأى مبتدئًا في العلم أو الدعوة شجعه ومدحه، وبين له نقصه وخطأه، بأسلوب مناسب، لا يزعجه ولا يحرجه.
وإذا رأى عملاً صالحًا ناقصًا لا يتعارض مع العقيدة شجعه، وأرشد إلى الأكمل منهجًا، والأسد مسلكًا، والأشمل عملاً، والأكثر فضلاً وأجرًا.
وإذا رأى قويًا في الخير ضعف نشاطه، أو منهجًا ضل أصحابه، أسدى نصيحته، وبين الأمر وحقيقته، وكشف الضلال وظلمته، ودلهم على الحق بحكمته، لا يداهن في دين الله وشريعته. [6]
ذمه للتفرق والخلاف:
ومن أبرز سمات منهجه - رحمه الله - ذم التفرق والخلاف بغير الحق والتحذير منه، والبعد عن التحزب، والنفير عنه، والتوكيد على جمع الكلمة والاعتصام بالكتاب والسنة، والمحبة والنصح لأهل الإسلام، وتقدير كل مجتهد في الحق، وتشجيع كل عامل محق، والحث على التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر على البلوى، والاجتهاد في طلب العلم والتحلي بآدابه، والإخلاص في الدعوة، وحسن التأسي بأسلافه، والتجرد من الهوى، وشُبه أتباعه، والتمسك بهدي النبي ﷺ وآثاره. [7]
معرفته لأهل الفضل فضلهم ومكانتهم:
من سمات منهجه - رحمه الله - أنه يُجل كبار العلماء وأفاضل الدعاة، ويعتبرهم خواصه والمقربين إليه، ويُثني على الداعية المجتهد في طلب العلم، الحريص على التضلع من كتب السلف، والمتمكن من اللغة، المكثر من الاستلال بالكتاب والسنة، البعيد عن الإثارة والفتنة، وعن الغلظة والشدة، المعالج للأمور بالروية والحكمة، المؤثر في أسلوبه وعرضه، المكثر من نشاطه في دعوته، المراجع للمادة العلمية في موعظته ومحاضرته، المعني باختيار المهم في موضوعاته، المخالط الناصح للعامة والخاصة، المتفائل المبشر بالخير، والعامل الجاد في العمل. [8]
تبصره للعواقب وترويه في المهمات:
ومن سمات منهجه - رحمه الله - في الدعوة الحكمة في الأمور، والتبصر في العواقب، والتروي في المهمات، وقد نجى الله به من فتن مظلمة، وشرور عظيمة، ومفاسد كثيرة، وفتح الله بحكمته أبوابًا للخير مغلقة: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269].
وبهذه الحكمة دفع الله آثار عجلة المتعجلين، وهوى الجاهلين، وحفظ الله الأمن بين المؤمنين. [9]
ومن بصيرته وحكمته ومعرفته أنه كان يعمل بمنهج التسديد والمقاربة في الفروع والوسائل، لا الأصول والعقائد، مع العمل على تحصيل مقام الإحسان، والسبق في صالح الأعمال، وتحقيق أعلى الرتب، والوصول إلى أفضل الأحوال.
وهو منهاج نبوي، حيث وجه النبي ﷺ أصحابه بالتسديد والمقاربة كما في قوله ﷺ: سددوا وقاربوا[10] الحديث.
فما كل أمر يستطيع العبد أن يأتي به على تمام الوجه المراد، وعلى كمال الصفة المطلوبة، ولهذا بُنيت العبادات على الاستطاعة، قال تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ومن القواعد الخمس الكبرى في الفقه الإسلامي قاعدة (المشقة تجلب التيسير) والأصل في الإسلام أنه مبني على الحنيفية السمحة، ووضع الآصار والأغلال. [11]
عموم دعوته وشمول بلاغه:
رسالة الإسلام عامة للجن والإنس، والذكر والأنثى، والشباب والكهول والشيوخ، والأغنياء والفقراء، والعرب والعجم، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28].
والشيخ - رحمة الله - كانت دعوته عامة، فتجد بيته يغص بالناس كلهم من كل الأصناف، ومن مختلف الأعمار والأعمال والأجناس، وكان يأبى أشد الإباء في مجرد التمييز، ويطبق الميزان الإلهي: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] مع الحكمة ووضع الأمور في مواضعها المناسبة. [12]
كما أن هذه الدعوة كانت شاملة للتوحيد، والعبادة والمعاملات والأخلاق، فالإسلام دين واحد، وعقائده وتشريعاته فيها الخير والنور للبشرية كلها مع العناية الشديدة بأصل الأصول، وهو التوحيد. [13]
الحكمة في دعوته والموعظة الحسنة في بلاغه:
نهج الشيخ - رحمه الله - منهج الحكمة في دعوته، وتبليغه شريعة ربه، وكان يدرك تماما معنى الحكمة في الأقوال والأفعال كان يقول - رحمه الله:
"فالحكمة كلمة عظيمة، معناها الدعوة إلى الله بالعلم والبصيرة، والأدلة الواضحة المقنعة الكاشفة للحق، والمبينة له، وهي كلمة مشتركة تطلق على معان كثيرة، تطلق على النبوة، وعلى العلم والفقه في الدين، وعلى العقل، وعلى الورع، وعلى أشياء أخرى، وهي في الأصل كما قال الشوكاني رحمه الله: الأمر الذي يمنع عن السفه، هذه هي الحكمة، والمعنى: أن كل كلمة وكل مقالة تردعك عن السفه، وتزجرك عن الباطل فهي حكمة، وهكذا كل مقال واضح صريح، صحيح في نفسه، فهو حكمة، فالآيات القرآنية أولى بأن تسمى حكمة، وهكذا السنة الصحيحة أولى بأن تسمى حكمة بعد كتاب الله، وقد سماها الله حكمة في كتابه العظيم، كما في قوله : وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] يعني السنة، وكما في قوله سبحانه: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا[البقرة:129] الآية، فالأدلة الواضحة تسمى حكمة، والكلام الواضح المصيب للحق يسمى حكمة". [14]
وهكذا كان منهجه - رحمه الله - حيث كان يسلك طريق الحكمة والروية، وعنده قدرة فائقة على التعامل مع الفئات المتباينة، حيث تعامل مع الحكام والملوك والمسؤولين فكسب ثقتهم وأفادهم بصائب رأيه، وفي المقابل هو مقصد الشباب والفتيان يستفيدون من عمله ويثقون بما يصدر عنه. [15]
وقطعًا كان مرد ذلك إلى توفيق الله ثم حكمته - رحمه الله - في التعامل واختياره لكلٍ ما يناسبه.
تروي هند بنت عبدالعزيز بن باز أنها لما كانت في المرحة المتوسطة عرضت عليها المشرفة الاجتماعية أن تنصح طالبة كان سلوكها غير سوي تقول: ففكرت في طريقة لتتقبل نصحي لها وتتأثر به.
فقلت لها: إنني رأيت فيك رؤيا مزعجة أقلقتني، وأخبرتها بالرؤيا وأحزنها ذلك فانتابني شعور بعدم الارتياح لهذا التصرف.
فسألت سماحة الوالد عن هذا التصرف فأوصاني بعدم الكذب، وأخبرني بأنني جانبت الصواب، وأوصاني بأن أبادرها بالنصح بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد استشعرت من هذا أهمية تحلي المؤمن بالصدق في أقواله وأفعاله وفي سائر أموره. [16]
وأما عن الموعظة فقد كان - رحمه الله - حسن الوعظ، كريم الطبع قد أخذ من هذا الوصف حظًا وافرًا، لا تخرج منه كلمة فيها تجريح أو تعدٍّ، ومن استعرض محاضراته ومؤلفاته وفتاواه ومقالاته يجد هذا المنهج جليًا واضحًا. [17]
الزجر والتوبيخ أحيانا:
وهذا الموقف يسلك عندما يكون هناك ظلم وتعد لا تنفع مع صاحبه الحكمة ولا الموعظة الحسنة، كما أنه ليس أهلًا للمجادلة بالتي هي أحسن، فعندئذ لا ينفع مع هذا وأمثاله إلا الشدة والغلظة، والوقوف بحزم وقوة لصد تعديه وظلمه، وإيقافه عند حده، خصوصًا عندما يكون ذلك متعلقًا بحق الله تعالى وعبوديته سبحانه، وهكذا كان منهجه - رحمه الله - فقد وقف مواقف قوية في وجه كل من تطاول على شرع الله، أو حاول ابتداع أمور ليست من الدين في شيء، بعد أن لم تكن الحكمة والموعظة والجدال نافعة معه، وما أكثر المواقف التي سطرت في مقالاته وكتاباته وتوجيهاته.
يقول - رحمه الله - وهو يوضح هذا المنهج الذي طبقه عمليًا قبل أن ينطق به لسانه: "أما عند الظلم والتعدي فله نهج آخر، وسبيل آخر، كما قال جل وعلا: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46] فإذا كان أهل الكتاب يجادلون بالتي هي أحسن، فالمسلمون من باب أولى أن يجادلوا بالتي هي أحسن، لكن من ظلم ينتقل معه إلى شيء آخر، فقد يستحق الظالم الزجر، والتوبيخ، وقد يستحق التأديب والسجن، إلى غير ذلك على حسب ظلمه". [18]
وقال رحمه الله: "...الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت باللين في محله، والغلظة والشدة في مجالهما، وأن المشروع للداعية إلى الله أن يتصف باللين والرفق والحلم والصبر؛ لأن ذلك أكمل في نفع دعوته والتأثر بها كما أمره الله بذلك وأرشد إليه رسوله ﷺ، وأن يكون على علم وبصيرة فيما يدعو إليه وفيما ينهى عنه لقول الله سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108].
ولا ينبغي للداعية أن يلجأ إلى الشدة والغلظة إلا عند الحاجة والضرورة وعدم حصول المقصود بالطريقة الأولى، وبذلك يكون الداعي إلى الله سبحانه قد أعطى المقامين حقهما وترسم هدي الشريعة في الجانبين".[19]
توسطه واعتداله:
الوسطية والاعتدال ميزتان تميز بهما - رحمه الله - في جميع أموره، فقد كان مثالاً للتوازن والموضوعية في العبادة والرأي والفتوى، والمعاملة والتوجيه والنقد.
ولم يعرف عنه - رحمه الله - إسفاف في القول، أو شطحٌ في الرأي، أو شذوذ في الفتوى، أو غرابة في التعامل، أو تطرف في التوجيه، أو حدة في النقد، أو حدّية في التفكير.
ومع هذا كان أيضًا متوازنًا مع كل الأطراف، فهو مضرب المثل في التوازن بين الراعي والرعية، الحاكم والمحكوم.
وهو - رحمه الله - مضرب المثل في التوازن بين الناصحين والمنصوحين، وبين المجتهدين والمقصرين.
كما أنه مضرب المثل في التوازن بين المتشددين والمتساهلين، والغالين والجافين، ولهذا كان مثالًا متميزًا في الوسطية والسماحة في كل شأنه. [20]
ومن القصص في ذلك أن سماحة الشيخ ألقى محاضرة عنوانها: (الشيخ محمد بن عبدالوهاب إمام عصره)، فعلق أحد العلماء على تلك المحاضرة وقال: "في العقائد كان الشيخ ابن باز مثالًا للاعتدال، لا هو كالمتطرفين الذين يطلقون عبارات الشرك على كل صغيرة وكبيرة، ولا هو من المتساهلين الذين يغضون النظر عن صغائر الأمور، بل إنه لينبه على كل صغيرة وكبيرة، ويضع كل شيء في موضعه، وهي الوسطية التي كسبها وثبتها علماء السنة، وسطية بالفكر، وسطية في العلم، وسطية في إلقاء الأحكام، وسطية في الأخلاق والسلوك، لا تطرف لا في الميمنة ولا في الميسرة". [21]
هذه بعض السمات من منهجه - رحمة الله - في الدعوة إلى الله، والمتتبع لكتبه وما كتب عنه يجد هذه السمات وغيرها كثيرة، بل أُلفت الكتب في ذلك ، تجلي وتبين منهجه في هذا الجانب. [22]، فرحم الله سماحته ونفعنا بعلومه.
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/7).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/30).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/13).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/67).
- انظر: علامة الأمة ابن باز، لسليمان الطريم (ص 85).
- انظر: علامة الأمة ابن باز، لسليمان الطريم (ص 85).
- انظر: علامة الأمة ابن باز، لسليمان الطريم (ص 86).
- انظر: علامة الأمة ابن باز، لسليمان الطريم (ص 88).
- انظر: علامة الأمة ابن باز، لسليمان الطريم (ص 87).
- رواه البخاري (6463)، ومسلم (2818).
- انظر: علامة الأمة ابن باز، لسليمان الطريم (ص 87).
- انظر: علامة الأمة ابن باز، لسليمان الطريم (ص 88).
- انظر: علامة الأمة ابن باز، لسليمان الطريم (ص 91).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/336).
- الشيخ ابن باز بقية السلف وإمام الخلف، لمانع بن حماد الجهني (ص 90).
- انظر: مواقف مضيئة من حياة الإمام عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، لحمود بن عبد الله المطر (ص 193 - 194).
- انظر: منهج الشيخ عبدالعزيز بن باز في الدعوة إلى الله، لسليمان أبا الخيل (ص 233).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/309).
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/207).
- انظر: الإبريزية في التسعين البازية، لحمد بن إبراهيم الشتوي (ص 45 - 46).
- انظر: الممتاز في مناقب الشيخ ابن باز، لعائض القرني (ص 29- 30).
- منها: كتاب "منهج الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز في الدعوة إلى الله"، للدكتور سليمان بن عبدالله أبا الخيل. و"منهج الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله في الدعوة إلى الله تعالى"، رسالة دكتوراه، لمحمد بن خالد بن محمد البداح.